سورة آل عمران - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{الم الله} حركت الميم لالتقاء الساكنين أعني سكونها وسكون لام {الله} وفتحت لخفة الفتحة، ولم تكسر للياء وكسر الميم قبلها تحامياً عن توالي الكسرات، وليس فتح الميم لسكونها وسكون ياء قبلها إذ لو كان كذلك لوجب فتحها في {حم}. ولا يصح أن يقال: إن فتح الميم هو فتحة همزة {الله} نقلت إلى الميم لأن تلك الهمزة همزة وصل تسقط في الدرج وتسقط معها حركتها، ولو جاز نقل حركتها لجاز إثباتها وإثباتها غير جائز. وأسكن يزيد والأعشى الميم وقطعا الألف، والباقون بوصل الألف وفتح الميم و{الله} مبتدأ {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} خبره وخبر {لا} مضمر والتقدير: لا إله في الوجود إلا هو، {وهو} في موضع الرفع بدل من موضع {لا}، واسمه {الحي القيوم} خبر مبتدأ محذوف أي هو الحي، أو بدل من {هو} و{القيوم} فيعول من قام وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت {نَزَّلَ} أي هو نزل {عَلَيْكَ الكتاب} القرآن {بالحق} حال أي نزله حقاً ثابتاً {مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما قبله {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} هما اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل، ووزنهما بتفعلة وافعيل إنما يصح بعد كونهما عربيين. وإنما قيل {نزل الكتاب} و{أنزل التوراة والإنجيل} لأن القرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة {مِن قَبْلُ} من قبل القرآن {هُدًى لّلنَّاسِ} لقوم موسى وعيسى أو لجميع الناس {وَأَنزَلَ الفرقان} أي جنس الكتب لأن الكل يفرق بين الحق والباطل، أو الزبور، أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له تفخيماً لشأنه {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} من كتبه المنزلة وغيرها {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها منتقم {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء} أي في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن وهو مجازيهم عليه {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاءُ} من الصور المختلفة {لا إله إِلاَّ هُوَ العزيز} في سلطانه {الحكيم} في تدبيره. روي أنه لما قدم وفد بني نجران وهم ستون راكباً. أميرهم العاقب وعمدتهم السيد وأسقفهم وحبرهم أبو حارثة خاصموا في أن عيسى إن لم يكن ولداً لله فمن أبوه؟ فقال عليه السلام: «ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟» قالوا: بلى. قال: «ألم تعلموا أن الله تعالى حي لا يموت وعيسى يموت، وأن ربنا قيم على العباد يحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم، وإنه صور عيسى في الرحم كيف شاء فحملته أمه ووضعته وأرضعته، وكان يأكل ويحدث وربنا منزه عن ذلك كله»
فانقطعوا فنزل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
{هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} القرآن {مِنْهُ} من الكتاب {آيات محكمات} أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها {وَأُخَّرُ} وآيات أخر {متشابهات} مشتبهات محتملات. مثال ذلك {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء، ولا يجوز الأول على الله تعالى بدليل المحكم وهو قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] أو المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله نحو قوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآيات، {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الأسراء: 23]. الآيات. والمتشابه ما وراءه أو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وما احتمل أوجهاً، أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله، أو الناسخ الذي يعمل به والمنسوخ الذي لا يعمل به. وإنما لم يكن كل القرآن محكماً لما في المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم والقرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله تعالى. {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ميل عن الحق وهم أهل البدع {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه} فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق {مِنْهُ ابتغاء الفتنة} طلب أن يفتتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله {والراسخون فِي العلم} والذين رسخوا أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور، والوقف عندهم على قوله {إلا الله} وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه، وهو مبتدأ عندهم والخبر يقولون {آمنّا به} وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم واعتقاد الحقية بلا تكييف، وفائدة إنزال المتشابه الإيمان به، واعتقاد حقية ما أراد الله به، ومعرفة قصور أفهام البشر عن الوقوف على ما لم يجعل لهم إليه سبيلاً، ويعضده قراءة أبي: {ويقول الراسخون} وعبد الله: {إن تأويله إلا عند الله}. ومنهم من لا يقف عليه ويقول بأن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه و{يقولون} كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أي بالمتشابه أو بالكتاب {كُلٌّ} من متشابهه ومحكمه {مِّنْ عِندِ رَبّنَا} من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه {وَمَا يَذَّكَّرُ} وما يتعظ وأصله يتذكر {إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أصحاب العقول، وهو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل. وقيل: {يقولون} حال من الراسخين.


{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تملها عن الحق بخلق الميل في القلوب {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} للعمل بالمحكم والتسليم للمتشابه {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} من عندك نعمة بالتوفيق والتثبيت {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} كثير الهبة، والآية من مقول الراسخين ويحتمل الاستئناف أي قولوها وكذلك التي بعدها وهي {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} أي تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك في وقوعه {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} الموعد. والمعنى أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك (إن الجواد لا يخيب سائله) أي لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} برسول الله {لَن تُغْنِيَ} تنفع أو تدفع {عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله} من عذابه {شَيْئاً} من الأشياء {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} حطبها {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله. والكاف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء الكفرة في تكذيب الحق كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم، أو منصوب المحل ب {لن تغني} أي لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك. {كداب} بلا همز حيث كان: أبو عمرو. {كَذَّبُواْ بئاياتنا} تفسير لدأبهم مما فعلوا، أو فعل بهم على أنه جواب سؤال مقدر عن حالهم، ويجوز أن يكون حالاً أي قد كذبوا {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} بسبب ذنوبهم يقال أخذته بكذا أي جازيته عليه {والله شَدِيدُ العقاب} شديد عقابه فالإضافة غير محضة {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} هم مشركو مكة {سَتُغْلَبُونَ} يوم بدر {وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ} من الجهنام وهي بئر عميقة. وبالياء فيهما: حمزة وعلي {وَبِئْسَ المهاد} المستقر جهنم.
{قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ} الخطاب لمشركي قريش {فِي فِئَتَيْنِ التقتا} يوم بدر {فِئَةٌ تقاتل فِي سَبِيلِ الله} وهم المؤمنون {وأخرى} وفئة أخرى {كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ألفين، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم. {ترونهم} نافع أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. ولا يناقض هذا ما قال في سورة الأنفال {وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] لأنهم قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم، فلما اجتمعوا كثروا في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ}
[الرحمن: 39]. {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْؤولُونَ} [الصافات: 24]. وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. و{مثليهم} نصب على الحال لأنه من رؤية العين بدليل قوله {رَأْيَ العين} يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ} كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في أعين العدو {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في تكثير القليل {لَعِبْرَةً} لعظة {لأُوْلِي الأبصار} لذوي البصائر.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف: 7]. دليله قراءة مجاهد {زين للناس} على تسمية الفاعل. وعن الحسن: الشيطان {حُبُّ الشهوات} الشهوة توقان النفس إلى الشيء، جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة، أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية {مِّنَ النساء} والإماء داخلة فيها {والبنين} جمع ابن وقد يقع في غير هذا الموضع على الذكور والإناث، وهنا أريد به الذكور فهم المشتهون في الطباع والمعدون للدفاع {والقناطير} جمع قنطار وهو المال الكثير. قيل: ملء مسك ثور أو مائة ألف دينار، ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا {المقنطرة} المنضدة أو المدفونة {مِنَ الذهب والفضة} سمي ذهباً لسرعة ذهابه بالإنفاق، وفضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق {والخيل} سميت به لاختيالها في مشيها {المسومة} المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها {والأنعام} هي الأزواج الثمانية {والحرث} الزرع {ذلك} المذكور {مَّتَاعُ الحياة الدنيا} يتمتع به في الدنيا {والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} المرجع.
ثم زهدهم في الدنيا فقال: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} من الذي تقدم {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم، ف {جَنات} مبتدأ {لَلذين اتقوا} خبره {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة ل {جنات}، ويجوز أن يتعلق اللام ب {خير} واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به. ويرتفع {جنات} على هو جنات وتنصره قراءة من قرأ {جناتٍ} بالجر على البدل من {خير} {خالدين فِيهَا وأزواج مُّطَهَّرَةٌ ورضوان مّنَ الله} أي رضا الله {والله بَصِيرٌ بالعباد} عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذا أعد لهم الجنات.
{الذين يَقُولُونَ} نصب على المدح أو رفع أو جر صفة للمتقين أو للعباد {رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا} إجابة لدعوتك {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} إنجازاً لوعدك {وَقِنَا عَذَابَ النار} بفضلك {الصابرين} على الطاعات والمصائب وهو نصب على المدح {والصادقين} قولاً بإخبار الحق، وفعلاً بإحكام العمل، ونية بإمضاء العزم {والقانتين} الداعين أو المطيعين {والمنفقين} المتصدقين {والمستغفرين بالأسحار} المصلين أو طالبين المغفرة، وخص الأسحار لأنه وقت إجابة الدعاء، ولأنه وقت الخلوة.
قال لقمان لابنه: يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم. والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها، وللإشعار بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
{شَهِدَ الله} أي حكم أو قال: {أَنَّهُ} أي بأنه {لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة} بما عاينوا من عظيم قدرته {وَأُوْلُواْ العلم} أي الأنبياء والعلماء {قَائِمَاً بالقسط} مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ويثيب ويعاقب، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله تعالى أو من {هو}، وإنما جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت (جاء زيد وعمرو راكباً) لم يجز لعدم الإلباس فإنك لو قلت (جاءني زيد وهند راكبا) جاز لتميزه بالذكورة أو على المدح. وكرر {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} للتأكيد {العزيز الحكيم} رفع على الاستئناف أي هو العزيز وليس بوصف ل {هو} لأن الضمير لا يوصف يعني أنه العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي لا يعدل عن الحق {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} جملة مستأنفة. وقرئ: {أن الدين} على البدل من قوله أنه لا إله إلا هو أي شهد الله أن الدين عند الله الإسلام. قال عليه السلام: «من قرأ الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة، ومن قال بعدها: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة يقول الله تعالى يوم القيامة: إن لعبدي عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد فثلثت النصارى وقالت اليهود عزير بن الله {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} أنه الحق الذي لا محيد عنه {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي ما كان ذلك الاختلاف إلا حسداً بينهم وطلباً منهم للرياسة وحظوظ الدنيا واستتباع كل فريق ناساً لا شبهة في الإسلام. وقيل: هو اختلافهم في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حيث آمن به بعض وكفر به بعض. وقيل: هم النصارى واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله {وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله} بحججه ودلائله {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} سريع المجازاة {فَإنْ حَاجُّوكَ} فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام والمراد بهم وفد بني نجران عند الجمهور {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعو إلهاً معه، يعني أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ونحوه:
{قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [آل عمران: 64]. فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه فما معنى المحاجة فيه! {وَمَنِ اتبعن} عطف على التاء في {أسلمت} أي أسلمت أنا ومن أتبعني وحسن للفاصل، ويجوز أن يكون الواو بمعنى (مع) فيكون مفعولاً معه. {ومن اتبعني} في الحالين: سهل ويعقوب وافق أبو عمرو في الوصل. {وجهي}: مدني وشامي وحفص والأعشى والبرجمي. {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} من اليهود والنصارى {والأميين} والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب {ءَأَسْلَمْتُمْ} بهمزتين: كوفي، يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يقتضي حصول الإسلام فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وقيل: لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر أي أسلموا كقوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي انتهوا {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} فقد أصابوا الرشد حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي لم يضروك فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى {والله بَصِيرٌ بالعباد} فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم.


{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين} هم أهل الكتاب رضوا بقتل آبائهم الأنبياء {بِغَيْرِ حَقّ} حال مؤكدة لأن قتل النبي لا يكون حقاً {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ} {ويقاتلون}: حمزة {بالقسط} بالعدل {مِنَ الناس} أي سوى الأنبياء. قال عليه السلام: «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم» {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} دخلت الفاء في خبر (إن) لتضمن اسمها معنى الجزاء كأنه قيل: الذين يكفرون فبشرهم بعذاب أليم بمعنى من يكفر فبشرهم، وهذا لأن (إن) لا تغير معنى الابتداء فهي للتحقيق فكأن دخولها كلا دخول ولو كان مكانها (ليت) أو (لعل) لامتنع دخول الفاء {أولئك الذين حَبِطَتْ أعمالهم} أي ضاعت {فِي الدنيا والآخرة} فلهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} جمع لوقف رؤوس الآي وإلا فالواحد النكرة في النفي يعم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة. {ومن} للتبعيض أو للبيان {يُدْعُونَ} حال من {الذين} {إلى كتاب الله} أي التوراة أو القرآن {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} جعل حاكماً حيث كان سبباً للحكم أو ليحكم النبي. روي أنه عليه السلام دخل مدراسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت؟ قال النبي عليه السلام: «على ملة إبراهيم» قالا: إن إبراهيم كان يهودياً. قال لهما: إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب {وَهُم مُّعْرِضُونَ} وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل وهي أربعون يوماً أو سبعة أيام و{ذلك} مبتدأ {وبأنهم} خبره {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي غرهم افتراؤهم على الله وهو قولهم: (نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا بذنوبنا إلا مدة يسيرة).
{فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ} فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} جزاء ما كسبت {وَهُمْ} يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس {لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة في سيئاتهم ونقصان في حسناتهم.
{قُلِ اللهم} الميم عوض من (يا) ولذا لا يجتمعان، وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه، وفيه لام التعريف وبقطع همزته في (يا الله) وبالتفخيم {مالك الملك} تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثانٍ أي يا مالك الملك {تُؤْتِي الملك مَن تَشَاءُ} تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له من الملك {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} أي تنزعه فالملك الأول عام والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل.: «روي أنه عليه السلام حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقالت اليهود والمنافقون: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك» فنزلت {وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ} بالملك {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} بنزعه منه {بِيَدِكَ الخير} أي الخير والشر فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، أو لأن الكلام وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعداءك {إِنَّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك. وقيل: المراد بالملك ملك العافية أو ملك القناعة. قال عليه السلام: «ملوك الجنة من أمتي القانعون بالقوت يوماً فيوماً» أو ملك قيام الليل. وعن الشبلي: الاستغناء بالمكون عن الكونين تعز بالمعرفة أو بالاستغناء بالمكون أو بالقناعة وتذل بأضدادها. ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب بقوله {تُولِجُ اليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي اليل} فالإيلاج إدخال الشيء في الشيء وهو مجاز هنا أي تنقص من ساعات الليل وتزيد في النهار، وتنقص من ساعات النهار وتزيد في الليل {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} الحيوان من النطفة، أو الفرخ من البيضة، أو المؤمن من الكافر {وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} النطفة من الإنسان، أو البيض من الدجاج، أو الكافر من المؤمن {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يعرف الخلق عدده ومقداره وإن كان معلوماً عنده، ليدل على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم. وفي بعض الكتب: أنا الله ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. وهو معنى قولهم عليه السلام: «كما تكونوا يولى عليكم الحي من الميت والميت من الحي»
بالتشديد حيث كان: مدني وكوفي غير أبي بكر.
{لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاءَ} نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو لصداقة قبل الإسلام أو غير ذلك، وقد كرر ذلك في القرآن والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم في الإيمان. {مِن دُونِ المؤمنين} يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة} إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أي ذاته فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد {وإلى الله المصير} أي مصيركم إليه والعذاب معد لديه وهو وعيد آخر.
{قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضى الله {يَعْلَمْهُ الله} ولم يخف عليه وهو أبلغ وعيد {وَيَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} استئناف وليس بمعطوف على جواب الشرط أي هو الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض فلا يخفى عليه سركم وعلنكم {والله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيكون قادراً على عقوبتكم {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بعيداً} {يوم} منصوب ب {تود} والضمير في {بينه} لليوم أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً أي مسافة بعيدة، أو ب (اذكر) ويقع {تجد} على {ما عملت} وحده ويرتفع {وما عملت} على الابتداء و{تود} خبره أي والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه، ولا يصح أن تكون {ما} شرطية لارتفاع {تود}، نعم الرفع جائز إذا كان الشرط ماضياً لكن الجزم هو الكثير. وعن المبرد أن الرفع شاذ. وكرر قوله {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه {والله رَءُوفٌ بالعباد} ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه، ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لكمال قدرته مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43]. ونزل حين قال اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه. {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} محبة العبد لله إيثار طاعته على غير ذلك، ومحبة الله العبد أن يرضى عنه ويحمد فعله. وعن الحسن: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه.
وقيل: محبة الله معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به وبذكره ودوام الأنس به. وقيل: هي اتباع النبي عليه السلام في أقواله وأفعاله وأحواله إلا ما خص به. وقيل: علامة المحبة أن يكون دائم التفكير، كثير الخلوة، دائم الصمت، لا يبصر إذا نظر، ولا يسمع إذا نودي، ولا يحزن إذا أصيب، ولا يفرح إذا أصاب، ولا يخشى أحداً ولا يرجوه {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} قيل: هي علامة المحبة {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن قبول الطاعة، ويحتمل أن يكون مضارعاً أي فإن تتولوا {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} أي لا يحبهم.
{إِنَّ الله اصطفى} اختار {ءَادَمَ} أبا البشر {وَنُوحاً} شيخ المرسلين {وآلَ إبراهيم} إسماعيل وإسحاق وأولادهما {وآل عمران} موسى وهارون هما ابنا عمران بن يصهر. وقيل: عيسى ومريم بنت عمران ابن ماثان وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة {عَلَى العالمين} على عالمي زمانهم {ذُرِّيَّةَ} بدل من {آل إبراهيم} {وآل عمران} {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} مبتدأ وخبره في موضع النصب صفة ل {ذرية} يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض: موسى وهارون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوي من يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان وهو يتصل بيهودا بن يعقوب بن إسحاق، وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: بعضها من بعض في الدين {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يعلم من يصلح للإصطفاء، أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها {إِذْ قَالَتِ} {وإذ} منصوب به أو بإضمار (اذكر). {امرأت عمران} هي امرأة عمران بن ماثان أم مريم جدة عيسى وهي حنة بنت فاقوذا {رَبِّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ} أوجبت {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} هو حال من {ما} وهي بمعنى الذي أي معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه، وكان هذا النوع من النذر مشروعاً عندهم أو مخلصاً للعبادة يقال (طين حر) أي خالص {فَتَقَبَّلْ مِنّي} {منّي} مدني وأبو عمر، والتقبل: أخذ الشيء على الرضا به {إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} الضمير ل {ما في بطني} وإنما أنّث على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة {قَالَتْ رَبِّ إِنّي وَضَعْتُهَا أنثى} {أنثى} حال من الضمير في {وضعتها} أي وضعت الحبلة أو النفس أو النسمة أنثى، وإنما قالت هذا القول لأن التحرير لم يكن إلا للغلمان فاعتذرت عما نذرت وتحزنت إلى ربها ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيماً لموضوعها أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عزائم الأمور.
{وضعتُ}: شامي وأبو بكر بمعنى ولعل لله فيه سراً وحكمة، وعلى هذا يكون داخلاً في القول. وعلى الأول يوقف عند قوله {أنثى} وقوله: {والله أعلم بما وضعت}. ابتداء إخبار من الله تعالى: {وَلَيْسَ الذكر} الذي طلبت {كالأنثى} التي وهبت لها واللام فيهما للعهد {وَإِنّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} معطوف على {إني وضعتها أنثى} وما بينهما جملتان معترضتان. وإنما ذكرت حنة تسميتها مريم لربها لأن مريم في لغتهم العابدة، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها وأن يصدق فيها ظنها بها، ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان بقوله {وَإِنّي} {وإنّي} مدني {أُعِيذُهَا بِكَ} أجيرها {وَذُرِّيَّتَهَا} أولادها {مِنَ الشيطان الرجيم} الملعون في الحديث: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها» {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} قبل الله مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} قيل: القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط لما يسعط به وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى في ذلك، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي أختها. فقالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها. وقيل: هو مصدر على تقدير حذف المضاف أي فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} مجاز عن التربية الحسنة، قال ابن عطاء: ما كانت ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات. {ونباتاً} مصدر على خلاف الصدر أو التصدير فنبتت نباتاً {وَكَفَّلَهَا} {وكفلها}: قبلها أو ضمن القيام بأمرها. وكفّلها: كوفي أي كفلها الله زكريا يعني جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها {زَكَرِيَّا} بالقصر: كوفي غير أبي بكر في كل القرآن. وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا. غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه في العبري: دائم الذكر والتسبيح {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب} قيل: بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم.
وقيل: المحراب أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء {قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا} من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} فلا تستبعد. قيل: تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد {إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ} من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير تقدير لكثرته أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل.
{هُنَالِكَ} في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت فقد يستعار (هنا) و(حيث) و(ثم) للزمان. لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أمها حنة في الكرامة على الله، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أمها كذلك. وقيل: لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً} ولداً والذرية يقع على الواحد والجمع {طَيِّبَةً} مباركة والتأنيث للفظ الذرية {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء} مجيبه {فَنَادَتْهُ الملئكة} قيل: ناداه جبريل عليه السلام. وإنما قيل {الملائكة} لأن المعنى أتاه النداء من هذا الجنس كقولهم (فلان يركب الخيل). {فناديه} بالياء والإمالة: حمزة وعلي {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي المحراب} وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات، وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات. وقال ابن عطاء: ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب {إِنَّ الله} بكسر الألف: شامي وحمزة وعلى إضمار القول، أو لأن النداء قول. الباقون: بالفتح أي بأن الله {يُبَشّرُكَ} {يبشرك} وما بعده: حمزة وعلي من بشره والتخفيف والتشديد لغتان {بيحيى} هو غير منصرف إن كان عجمياً وهو الظاهر فللتعريف والعجمة كموسى وعيسى، وإن كان عربياً فللتعريف ووزن الفعل ك {يعمر} {مُصَدِّقاً} حال منه {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} أي مصدقاً بعيسى مؤمناً به فهو أول من آمن به. وسمي عيسى كلمة الله لأن تكون ب {كن} بلا أب، أو مصدقاً بكلمة من الله مؤمناً بكتاب منه {وَسَيّدًا} هو الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف، وكان يحيى فائقاً على قومه لأنه لم يركب سيئة قط ويا لها من سيادة. وقال الجنيد: هو الذي جاد بالكونين عوضاً عن المكون {وَحَصُورًا} هو الذي لا يقرب النساء مع القدرة حصراً لنفسه أي منعاً لها من الشهوات {وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين} ناشئاً من الصالحين لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غلام} استبعاد من حيث العادة واستعظام للقدرة لا تشكك {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} كقولهم (أدركته السن العالية) أي أثر فيَّ الكبر وأضعفني وكان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون {وامرأتي عَاقِرٌ} لم تلد {قَالَ كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} من الأفعال العجيبة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5